إبداع

«غير جدير بالذكر».. قصة قصيرة من المجموعة القصصية «أشخاص قد تعرفهم»

تعد (غير جدير بالذكر) هي قصة قصيرة من المجموعة القصصية «أشخاص قد تعرفهم» للكاتبة عزة رياض، من إصدار دار الأدهم للطباعة والنشر معرض القاهرة الدولي للكتاب ٢٠١٩.

بعد أن أوغلها الزمن في طيات الفقر والمرض وترك لها جسدًا بساق ونصف، لم تجد في الأمر صعوبة بأن تحصل على قطعة أرض مملوكة للدولة بطريقة)، وضع اليد (كما يفعل بعضٌ من الأشخاص لبناء مشاريعَ يتكسبون من ورائها وخصوصا أن مواصفاتها تتيح لها البقاء من دون عداوة، أطماعها لا تتعدى مساحة جسدها المنهك.

استقرت «جليلةُ» تحت أحد الكباري بمنطقة وسط المدينة؛ لتؤنس وحشتَها بالمارة الذين لا تعرفهم، رأس مال مشروعها كان جلبابًا أسودَ ممزقًا تجمع فوقه رقعًا عديدة هي بقايا من بقايا ما كانت تحصل عليه من أهل الإحسان، أما ما تبقى من سواد الجلباب تعكر من الأتربة والأوساخ التي لملمتها من شوارع عدة طافت بها حتى استقرت هناك في مملكتها الجديدة.

كان أثاثها عكازًا حصلت عليه من إحدى الجمعيات الخيرية، ونصف بطانية صوف ممزقة بعض الشيء لكنها تصلح لحجب خشونة حشى الأرض عن جسدها، ولم تنس أن تحضر معها زجاجتين مملوءتين بالماء البارد، تعبئهما دائما من أي «كولدير» بالطريق صنع سبيلا لروح المرحوم، ومذياعًا صغيرًا يعمل بالبطاريات التي تحصل عليها من القمامة وتقوم بدغدغتها بأسنانها القليلة لتسمع فيه الأخبار!

جلست «جليلة» منهكةَ الأنفاس، تفرش بيتَها الجديد وتضع أطباقا من الفُومِ بها ما تم التخلص منه من محالِّ الأطعمة التي تمر عليها نهارا، وما كادت تجلس حتى أقبلت عليها هرةٌ رَماديةٌ اختبأت بصدرها، وكأن الهررَ الضالةَ تعرف أيضا أنه يجب عليها مرافقةَ صديق مثلها بلا مأوى! لم يمر ساعات حتى أقبلت عليها كلبةٌ على وشك الوضع!!

أخذت «جليلة» نفَسا عميقًا وكأنها أكملت حُلما غاليًا.. ها أنا ذا أمتلك بيتا ورفيقا وكلبا لحراستي من الأوغاد الذين لا يكترثون بأمثالي.

في يومها الأول بدأت في مصادقة عمال البلدية اللذين يقومون بتنظيف الشوارع، ألقت على أحدهم تحية الصباح فردها إليهاش مصحوبة بجُنَيْهٍ فِشِيٍّ حصل عليه من إحدى السيارات في إشارة المرور.

يقينا كان يعلم أنه سيحصل على غيره وأن الست جليلة أولى به في أول أيامها هنا؛ فهي لا يعرفها أحد باعتبارها مستجدة على المكان. أيام قليلة وصارت من سكان المنطقة يمر عليها الكثير ممن يمثلون نماذج لحياة عاشتها من قبل، منهم من يريد أن يخرج صدقة لمريض، أو يشفق عليها بطعام، وبعض الصغار الذين ينادون عليها باسمها ويقذفون كرةً أو زجاجة مشروب غازي ويلوذون بالفرار خوفا منها!

فتيات تعبرن مسرعات خوفا من قواها العقلية، أما هي فكان الأمر بالنسبة إليها عاديا؛ فكل ما فقدته سلبها شعورَ الحزن على توافه الأمور.. «ماذا يمكن أن يحدث أكثر من ذلك» سؤال كانت تردده في نفسها، ولم تكن لها سوى أمنية وحيدة هي أن يحل الليل لتنعم بقسط من الراحة من ضوضاء فرضت عليها وهي تناضل أصوات الحياة بشفاه ملتصقة مرددة كلمة: «الله حي»في إحدى الصباحات، تجمعت عربات الإسعاف وأوناش لرفع الحطام في مكان جليلة.. والتف المارة حول المشهد يتسألون: «ماذا حدث؟ » لا أحد يعرف حتى ذاعت الأخبار: سقوط جزء من الكوبري دون خسائر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock