فنون

بدون خطوط حمراء.. مواجهة نارية بين إبراهيم عيسى و«ويك إند» حول فيلم «صاحب المقام»

باكينام قطامش – هاني سامي

تصوير: زياد خالد

التنوير مشروع حياته ورسالته التي بذل من أجل تحقيقها كل شيء، شخصية مثيرة للجدل يملك من المقومات الفكرية والثقافية والإنسانية ما يؤهله لأن يكون في الصدارة دائمًا، تصدقه فتحبه وتختلف معه فتحبه أيضًا وهذا ليس تناقضًا بل منهجًا أرتضاه لحياته فهو يحترم فكر الآخر لكي يحترم الآخر فكره.

هذا هو إبراهيم عيسى الكاتب الصحفي والقصاص والسيناريست والإعلامي على شاشات التلفزيونات المختلفة والذي طالما أثار الجدل حول العديد من أفكاره التي يراها البعض تغريدًا لطائر خارج السرب بينما يراها البعض الآخر مجهودًا يشكر عليه وكلا الطرفين يردد بينه وبين نفسه «أفلح إن صدق».

وآخر محطات الجدل الإبراهيمي كانت فيلمه الجديد «صاحب المقام» الذي يدق ناقوس الخطر في وجه التيارات الدينية المتشددة ويتضمن الكثير من الإشارات والتلميحات يحملها بطله على أكتافه فتكاد تحني ظهره ولكنه يعود فيشتد و يستقيم.

الفيلم ببساطة رحلة يسير فيها البطل من عالم المادة والصراع بين المتنافسين في سوق الحياة إلى عالم آخر أكثر رحابة وصدقًا يكون للروح فيه الصوت الأعلى، و نبدأ مع إبراهيم عيسى منذ اللحظة الأولى في حياة هذا البطل الذي يهدم ضريحًا لأحد الأولياء لتنفيذ مشروعًا سكنيًا ويسخر من رفض البعض لفكرة الهدم حبًا في هذا الولي وإيمانًا بروحانيته وكراماته.

  • نحن الآن أمام ضريح سيدي هلال.. فمن هو ولينا المفتري على ضريحه بالهدم ؟

يقول إبراهيم عيسى: سيدى هلال هو اللي القائم ضريحه في مدينة «قويسنا» وهو موجود بالفعل وقد رأيته كثيرًا حيث نشأت هناك بعد مولدي بقرية «الرمالي» والتي شاهدت فيها ضريح سيدي «أحمد» وكلا الضريحين أختزنتهما بداخلي منذ الطفولة لأضعهما على الورق في الوقت المناسب، و لم أجد أفضل من فيلم «صاحب المقام» مكانًا يحتضن سيدي هلال بين أحداثه، و ليس سيدي هلال الحقيقة الوحيدة في الفيلم فأكثر من ٧٠ بالمائة من مشاهده رأيتها بعيني أو وقعت أحداثها لي أو لأحد من أسرتي.

  • حامل لواء التنوير كيف يصف علاقته بالضريح ؟ أو كيف يرى علاقة الأنسان به بشكل عام ؟

العلاقة واضحة ولا تحتاج إلى إفصاح لأعبر عن المحتوى والرسالة وراء الفكرة لأن المحصلة النهائية التي أردت الوصول إليها من خلال علاقة البشر بالضريح هي التسامح والمحبة والقبول بالآخر، فكل هذه المعاني هي عناوين كبيرة المقام ولفكرة الصوفية واللجوء إلى الله والتبرك بأوليائه الصالحين وطلب المدد منهم.

  • وما هو هذا المدد ؟

المدد هو إستزادة أو إضافة لما هو موجود بالفعل وهي إضافة روحية، نفسية، إطمئانية، هي طقس أو حالة مريحة للنفس تمامًا مثل باقي الطقوس الدينية التي تمارسها جميعًا في بيوت الله سواء كانت بالأضرحة أو بدونها مثل صلاة التراويح التي نصليها جماعة في المساجد فهل من المنطقي الإ نصليها في سيدنا الحسين أو السيدة زينب أو السيدة نفيسة لأن الصلاة في مساجد بها أضرحة حرام؟ وهل من المنطقي أيضًا الإ نطلب مددًا من الله في هذه الأماكن الطاهرة التي تضم رفات جثمان شريف أو محب لله أو هكذا نحن نراه؟

إن المدد ليس من صاحب المقام فالله وحده هو الذي يمنحنا مددًا من لدنه وما المقام هنا الإ مجرد راحة نفسية داخلية يشعر بها العبد وهو بين يدي خالقه.

وهذه الامور كلها موجودة بالفعل في حياتنا فالفيلم لم يخترع شيئًا دخيلا علينا، فهناك نوعان من الحقيقة، الحقيقة المنشأة والحقيقة المكتشفة وصاحب المقام لم ينشئ حقيقة بل اكتشفها وهي التي تؤكد على أن مصر بها ٣٠٠ ضريح لأولياء صالحين وأكثر من ١٢ مليون عضو في الجماعات الصوفية – هذا هو الرقم الرسمي-  وموالد آل البيت تعد أكبر تجمع بشري مسلم بعد الحج وكربلاء في العراق، من هذا المنطلق نحن نتحدث عن واقع مصري صوفي بالضرورة وبالفعل.

  • كيف ترى من وجهة نظرك تفسير تعبيرك واقع صوفى بالضرورة و بالفعل؟

الصوفية توضح أن العلاقة الحقيقية بين الإنسان وربه هي علاقة الحب وليس الخوف والجزع والترهيب وأكثر ما نسمعه في ذكر الصوفيين وغنائهم جمل مثل: «حبيبي يا رسول الله»، «ربنا حبيبنا»، أو «ربنا رب قلوب» وهكذا يكون المنتج المستهدف في التعبير عن هذه العلاقة بالله سبحانه وتعالى قائمة على الحب والذكر.

فالصوفيون يذكرون الله عبادة ويرقصون عبادة ويغنون عبادة ويتقربون إلى الله بالحب والوله والعشق، هذا هو المحور الأول لفيلم صاحب المقام.

أما المحور الثاني فهو الخاص بالمجتمع المصري بشكل عام فنحن أمام مجتمع له فهمه الخاص للدين بطريقة مصرية جدًا إلى درجة أننا نطلق على هذا الفهم الإسلام المصري والذي يتضح من خلال المدرسة المصرية لتلاوة القرآن، أحياؤنا لطقوس شهر رمضان والتي جعلت له مذاقًا مصريًا خاصًا لا يوجد فس أي دولة أخرى.

وطبيعي أن تكون علاقتنا بالله مختلفة لأن طقوسنا كلها مختلفة فعلى سبيل المثال نحن الذين تسمى أولادنا «عبد النبي» و«عبد الرسول» وليس لدينا مشكلة في هذا بينما السلفيون والوهابيون لديهم مشكلة في أن يكون اسمك دليلا على أنك عبدًا لرسول الله وكأنه يأخذ العبودية بمعنى التعبد وليس العبودية بمعنى الرق أي أنك بين يدي رسول الله كعبد من عبيده وليس من عباده فكلنا بما فينا الرسول عليه الصلاة والسلام عبادالله وعبيد له أيضًا.

وأضاف ابراهيم عيسى:

ظل الإسلام المصري قائمًا إلى منتصف السبعينيات عندما وقع الغزو الوهابي السلفي وقام بتغيير مفهوم هذا الإسلام بداية من مفردات اللغة وحتى نشر الأفكار الجديدة التي تهدم سنوات مضت وترسخ لمفهوم جديد لا يعرفه المصريون فمثلا نحن الذين تسمى سبوع الطفل سبوعًا وليس عقيقة ونحن أيضًا الذين نسلم على بعضنا البعض بعد الصلاة فيقول شخص «حرمًا» ويرد عليه الآخر «جمعًا» وليس «يتقبل الله» واجابتها «منا ومنكم» وللعلم كلا المصطلحين صحيح ويحملان نفس المضمون فالأول تمنى بأن نصلي جميعًا في بيت الله الحرام والثاني تمنى أيضًا بأن يتقبل الله صلاتنا فلا يوجد تجاوز في إستخدام أيا منهما.

وحتى كلمة البقية في حياتك تحولت إلى البقاء لله وأمر بديهي إن كلنا نعرف أن البقاء لله وحده وأننا كبشر زائلون ومن البديهي أيضًا أنه لا توجد بقية في حياة المتوفس انتقلت إلى الآخر الذي تعزيه حتى كلمة المرحوم أضافوا لها بإذن الله مع إن كلمة مرحوم في حد ذاتها دليلا على أنه مرحوم بأذن الله «امال بأذن مين ؟»، وهل هناك من يرحم الإ الله سبحانه وتعالى؟ كل هذه المفردات تغيرت على مستوى الشكل وليس المضمون لأن المضمون دائمًا واحد لا بديل له وهو الله أما الكلمات فسواء قلناها أم لم نقلها لن تغير في هذا المضمون شيئًا، لقد تركوا الجوهر وتمسكوا بالشكل وفي رأيي أن الله سبحانه وتعالى أكبر بكثير من نصفه أو نصف ردود أفعاله على أعمالنا بمجرد كلمات قد لا يكون وراءها حب حقيقى أو عبودية حقيقية للخالق.

هذا ما حدث على مستوى اللغة أما على مستوى الفعل فهل يعرف أحدكم مولد في مصر تم إلغاؤه؟ وهل يعرف أحد عدد الأضرحة التي تم هدمها بفعل السلفيين؟ الرقم ربما مع بعض الرصد الدقيق يتجاوز الـ٣٠ ضريح وكلنا شاهدنا على الهواء مباشرة الإرهابيين وهم يهدمون الأضرحة في سيناء، كل هذا يعني أن الثقافة الإسلامية المصرية تعرضت وما زالت تتعرض لخطر جسيم، داهم وناجح من السلفيين والوهابيين ينتهي حتمًا إلى صراع واضح بين الفهم المصري المستقر منذ مئات السنين للدين والإسلام وبين الفهم الوافد إلينا وكانت ضحية هذا الصراع الفكرة الصوفية وعلاقة كل ما سبق بالله، وكذلك علاقتنا نحن المصريون بخالقنا، و«صاحب المقام» جاء لينتصر الفهم المصري وللإسلام المصري في مواجهة الإسلام السلفي الوهابي.

  • واجه الفيلم اتهامات كثيرة بأنه ينتصر للاسلام المصرى عن طريق الشفاعة و التوسل إلى الله باوليائه الصالحين فما هو ردك على هذه الاتهامات ؟

اذا حاول البعض جذب الفيلم إلى قضايا فقهية مثل التوسل والشفاعة فالفقه المصري نفسه رد عليها عشرات المرات فالمستقر فقهيًا في مصر أنه لا ضرر ولا ضرار في زيارة أولياء الله الصالحين سواء كانوا من آل البيت أو من غيرهم ، والأزهر ودار الإفتاء أصدرا العشرات من الفتاوى في هذا الصدد تم تداولها على نطاق واسع بعد الفيلم، بل سئل مفتى الديار المصرية في أحد البرامج التليفزيونية عن موضوع التوسل والشفاعة، فأجاب: عندما نقول يا حسين فمضمون قولنا يا رب الحسين لأننا نعلم جيدًا أن الحسين لايلبي النداء بشخصه بل الذي يلبي هو الله والذي يستجيب هو الله، كما أن هناك فتاوى مختومة بخاتم دار الإفتاء تبيح زيارة الأضرحة فلماذا المزايدة على مثل هذه الأمور بدون الرجوع إلى الجهات المعنية بها؟.

ويضيف إبراهيم عيسى :

أريد أن أحيا الأمر برمته إلى كتاب جميل كتبه الدكتور الراحل مصطفى محمود يدور حول الشفاعة ما بين القبول والرفض وقد جمع فيه كل الأقاويل المتداولة حول نفس الموضوع والتي نشرها في مقالاته من قبل وكلها تنتصر لفكرة إحترام الرأي والرأي الآخر فإذا تصور البعض أن الزيارة والشفاعة أمرين غير موجودين من وجهة النظر السلفية فهناك وجهة نظر أخرى تؤكد العكس فلماذا لا نحترمها؟!

لقد قال الله سبحانه وتعالى في آية الكرسي: «من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه»، وهذه الجملة البليغة تؤكد أن الشفاعة لا تتم إلا بإذن الله وحده وليس غيره.

  • ولكن المعروف أن الشفاعة هنا مقصورة على الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم ؟

أنا لا أطمئن لهذا القطع بل أحاول أن انتصر للرحابة والاختلاف، لا أريد أن أخوض في جدل ديني ولكني ألفت النظر دائمًا في كل أعمالي وكتبي وبرامجي التليفزيونية إلى تقبل الجدل الديني ومناقشة الأمور الدينية من منظور يعتمد على البحث عن الحقيقة بدون تعصب أو سيطرة رأى على الرأى الآخر بعكس التيار السلفى الحاسم القاطع والذي يحاول فرض رأيه بدون إحترام لأراء الآخرين وبالتالى يصبح مبكرًا لهم وهذا الفكر هو ما يجب أن نحذر منه ونرسخ في مواجهته فكر التعايش والتسامح والقبول، ولنناقش المسألة بصراحة أكثر، فمن الذي آذى الدين أصلا، هل هم الصوفيون الذين يقوم مذهبهم على الحب؟ وهل هم الذين كفروا مخالفيهم أو اعتدوا على أحد؟ و هل فتشوا قلوب الناس أو نابذوهم؟ هل أتهموا أو طعنوا أحدا في دينه؟.. لا أعتقد أنهم ارتكبوا أي جريمة من هذه الجرائم، في المقابل الوهابيين والسلفيين لم يفتشوا قلوب مخالفيهم فقط بل أتهموا أصحاب هذه القلوب بالكفر وأحلوا دمائهم وقتلوهم بالفعل، ونحن عندما ننظر إلى تدين مسالم، متسامح، منتصر الحياة يواجهه تدين قاتل، مكفر، سفاك للدماء فإلى من تنحاز ولمن ننتصر بقلوبنا وعقولنا؟ سؤال بديهي وإجابته واضحة.

  • في بعض المذاهب الصوفية الشفاعة أو «الواسطة» بين العبد وربه أمر أصيل لأن هذا العبد – على حد تعبير أحد الصوفيين الذين التقيت بهم –ليس من حقه أن يدعو الله بذنوبه الكثيرة التي أرتكبها خلال حياته لهذا يجب أن يتوسل إلى الله من خلال الأولياء الصالحين أو شيخ الطريقة الصوفية.. فما قولك في هذا الإدعاء؟

من قال هذا المعنى ليس ممثلا للفكرة الصوفية الصافية بل هو أحد ضحايا «الشطط الفكري» والشطط يمكن أن يطول كل الأفكار فهناك شطط لدى الليبراليون والعلمانيون والمتدينين وأي شخص يمكن أن يذهب بفكره أبعد ما يكون عن الأساس الذي تقوم عليه فكرته، ونحن عندما نتعامل مع مثل هذه التيارات المختلفة نتعامل مع العمود الفقري للفكرة وليس مع شططها، على سبيل المثال العمود الفقري السلفية هو تكفير الآخر والولاية عليه والشطط هو رفع السلاح في وجهه والقضاء على حياته، أما الصوفية فالعمود الفقري لها هو الحب والتسامح والعيش مع كل التيارات أما شططها فهو ما قاله ذلك الصوفي الذي ذكرناه في بداية السؤال.

  • في رأيك.. ما الفائدة التي تعود على من يزور الأضرحة إذا لم تكن الشفاعة هي هدفه ؟

اللجوء إلى هذه الأماكن مثل اللجوء إلى أي مكان تسوده حالة من الروحانية وتملؤه الطاقة الإيجابية التي تساعد الإنسان على تحمل مشاق حياته، ألسنا عندما نمرض ونذهب إلى الطبيب يقول لنا «غيروا جو» أو «اذهبوا إلى البحر» أو «اجلسوا على النيل».. فهذه المفردات الحياتية كلها نوعًا من أنواع تهدئة الروح والنفس والله سبحانه وتعالى فضل أوقاتًا على أوقات وأماكن على أماكن ومساجد على مساجد بل وفضل بشر على بشر تبعًا لتقواهم و إيمانهم، فالأضرحة مثل الأديرة كلها أدوات للطاقة الإيجابية الروحانية العظيمة، صحيح أن الأنسان يمكنه الصلاة في أي مكان والدعاء سرًا أو جهرًا ولكن العبادة في مكان متخم بالطاقة الروحانية يكون له مذاق مختلف تمامًا.

  • البطل تعرض لعدد من الابتلاءات بعد هدمه للمقام بداية من مرض زوجته و دخولها فى غيبوبة ، مرورا بالمبالغ الطائلة التي خسرتها شركته في البورصة وانتهاء بحرق إحدى فيلاته بكل ما فيها هذه الابتلاءات جعلته يخاف ويغير طريقه لعله يتخلص منها.. ألم يكن من الأفضل أن يعود إلى الله حبًا و ليس خوفًا حسب النظرية الصوفية ؟

البطل إنسان لا يعرف الحب أو هو «عود أخضر» جف بسبب تحكم المادية والعقل البحت في حياته والمعروف أن العقلانية المحضة التي تغيب عنها الروحانية كارثة كما أن الروحانية التي يغيب عنها العقل كارثة أيضًا، والفيلم يحارب الجفاف العاطفي داخل البطل فعلى سبيل المثال منذ البداية نراه يعاملها بجفاف شديد ولا يكترث لها أو لإبنه ولكن عندما تمرض يكتشف أن بداخله حب كبير لها كان منزويًا خلف قناعه الحديدي المصنوع من الصلف والغرور والقسوة.

أما شركته فقد صور له خياله المريض أنها لا يمكن أن تسقط أبدا فأسقطها الله من حيث لا يدري وغير هذا مما تعرض له والذي نبهه إلى أن الحياة مملؤة بالإبتلاءات التي لم يكن يعرفها أو حتى يشعر بها فالله سبحانه و تعالى يقول : «ويحذركم الله نفسه» فكل ما مر به البطل كان إشارات أو تنبيهات تعيده مرة أخرى إلى التوازن النفسى المفقود بين المادية والروحانية أو بين القلب والعقل فهذا العود الجاف لن يعود إلى إخضراره فجأة أو بخطوة واحدة إنما شيئًا فشيئ تتضح له الرؤية بدليل أنه بعد خطوتين أو ثلاثة لم يجد تحسنًا في إبتلاءاته فقال للسيدة «روح» – وهي الشخصية التي تجسدها الفنانة يسرا في الفيلم – «أنا عملت حاجات كتير وما حصلش حاجة»، فترد عليه قائلة: «أنت في تجارة مع الله وليس صفقة تنتظر منها مكسبًا سريعًا»، وهذا يؤكد فكرة أننا جميعًا قد لا نأخذ شيئا آنيًا ومع ذلك لا يجب أن نتوقف عن العطاء.

على سبيل المثال إذا تصدق أحدنا ينتظر الفرج من الله بعد الصدقة مباشرة وكأنه يضع هذا أمام ذاك وعندما لا يتحقق ما يريده يتذمر مع أن الصدقة لا تنتظر مقابلا لها فنحن نتاجر ولا نقايض والفارق كبير جدًا بين التجارة والمقايضة.

والبطل عندما بدأ رحلته للبحث عن قلبه المفقود كان يتعرض لامتحانات متتالية صحيح كانت امتحانات صغيرة ولكنها إختبار فعلي لقدرته على الاستمرار وكأن الله يسأله: «هل ستظل مصممًا على استكمال رحلتك، أم أن تلك الأختبارات ستعيدك إلى ما كنت فيه؟».. واتضح هذا المعنى عندما سرق حذائه وهو يصلي في مسجد الإمام الشافعي فيقول له سائق التاكسى «الإمام زعلان منك»، فيرد عليه بقوله: «يزعل مني أنا ليه، ما يزعل من إللي سرق الحذاء»، وفكرة سرقة الحذاء في حد ذاتها سؤال مهم لأنها تثبت مدى إصراره على  العودة إلى نفس المكان مرة أخرى برغم ما تعرض له و كأن الحذاء المسروق هو خطوات الطريق التي كادت أن تسرق منه هي الأخرى فهل سيكمل الرحلة الممتدة أم يرتد مع أول اختبار؟ وهنا يكون للمشهد أكثر من طبقة في الدلالة يفهمها المتلقي حسب إدراكه للمعنى المتضمن داخله.

  • تعرض البطل أيضا لكثير من العنف فى تعامل أصحاب الطريق الجديد له فلماذا لجأت إلى هذا العنف ؟

هو ليس عنفًا بالمعنى المتعارف عليه ولكنه يشبه الصدمة الكهربائية التي تجعل البطل يفيق على الواقع الذي يعيش فيه والمملوء بالعدوانية بين البشر وبعضهم، وأنا أدعي أنني صاحب مشروع أو رسالة بغض النظر عن موقف الآخرين منها سواء أحطوا من قدرها أو رفعوه فهذا لا يعنيني؛ لأني أريد التعبير عن مشروعي بكل الوسائل والوسائط المعروفة وفي كل سيناريوهاتي ومنها صاحب المقام انطلق من الواقع وأحاول توجيهه إلى مسار آخر يخدم واقعًا جديدًا أتمنى وجوده، و الواقع المستهدف هنا هو إستعادة فكرة الحب ونبذ الكره والتعصب فحتى من عاملوه بعنف في البداية كان هدفهم أن يعود ويكتشف أن لديه قلبًا يحتاج إلى من يرويه بالعطف والتسامح والسلام النفسي لعله يزهر من جديد ويعيش حياة أخرى غير ما عاشه من جدب وصلف وأنانية.

إن صاحب المقام يحتضن الناس على اختلاف أشكالهم وثقافتهم وتوجهاتهم، فهو يحتضن المخطئ والفقير والجاف والمغرور بمعنى أشمل هو دعوة لأن يحتضن الجميع بعضهم البعض، كما يؤكد الفيلم أيضًا على أن الشطط في كل الأحوال موضع ملامة ورفض وإستنكار والذي يجب أن نتمسك به هو طاقة الحب التي وضعها الله بداخلنا جميعًا، وأي عمل فني له ما له وعليه ما عليه، يؤخذ منه أشياء وترفض أشياء أخرى حسب مزاج المتلقي وثقافته وحالته النفسية وأيضًا حسب الجدل المصاحب لهذا العمل، وأنا أقبل بكل هذا بل وأعتبر كل ما سبق جزءًا أصيلا من نجاح الفيلم وكل ما أطالب به أن نتعامل معه كعمل فني وليس عملا دينيًا؛ لأن الأفكار الدينية تؤخذ من أماكنها الأصلية أما العمل الفني فهو يكتفي بإعطاء الإشارات والرموز والتنبيهات وقد يحرض أحيانًا على نبذ أفكارًا بعينها في مقابل أفكار أخرى أكثر هدوءًا وتنويرًا وشفافية.

  • بما انك فى إجابتك السابقة ذكرت شخصية روح.. فمن هي هذه الروح ؟

روح هي الجانب الذي يحمل دعوة للمحبة والأخلاق داخل الفيلم وهي أيضًا التي وضعت أقدام البطل على أول الطريق الصحيح ولا أخفيكم قولا أنني والمخرج حذفنا مشهدًا ما يوضح ماهية الشخصية وأنها صاحبة المستشفى وتعرضت لأزمة كبيرة في حياتها بفقدانها لكل أسرتها في حادث أليم، فقررت تكريس كل ثروتها للمستشفى ولكننى أردت الانتقال بروح من حيز التفسير أو التجسيد الواقعي إلى الترميز فهي تظهر مرة عاملة نظافة ومرة أخرى كطبيبة ثم ممرضة ثم أحد أفراد الأمن أي إنها موجودة في كل الحالات بمثابة الضمير الحي الذي يدفع البطل للسير بجدية في رحلته الجديدة، وأي فيلم يحمل مشروعًا فكريًا نجد بداخله شخصية تلفت الأنظار وليس لها تاريخًا دراميًا مثل شخصية المجذوب الذي يضع المؤلف على لسانه حكمة العمل كله وهذه الشخصيات مصابيح الإضاءة داخل الفيلم فهي التي تنير الطريق وتدل الأبطال على ما يجب أن يكون لا ما هو قائم بالفعل.

  • ننتقل إلى نقطة أخرى أثارت جدلا كبيرا و هى فكرة الخطابات التى يلقيها أصحاب المشاكل الدنيوية داخل ضريح الإمام الشافعى فهل هى خطابات إلى الله ام إلى الأمام الذى سيتوسط لأصحابها عند الله ؟

بداية الإمام الشافعى يطلق عليه امام السنة فهو واضع العمود الفقرى لفقه السنة و قد جعل المصريون منه اما ما صوفيا يلجأون اليه كما يلجأون لآل البيت و هذا جمال المصريين فى تدينهم أن يتحول الرجل الذى بدأ الفكر السلفى إلى عنوان الصوفية ، ثانيا: مسجد الشافعى يتميز عن مساجد مصر كلها بأن به صندوق للشكايا يضع مرتادوا المسجد شكاويهم بداخله و هذه الخطابات موجودة بالفعل فهى ليست إختراعا شخصيا و البطل فى الفيلم كان منتصرا للعلم فعندما مرضت زوجته ذهب بها إلى المستشفى لتتداوى من مرضها و هنا تظهر روح لتوضح لبطلنا ان العلم يعالج الجسد و لكن المدد يعالج الروح فيقرر هو أن يأخذ هذه الخطابات و يحل مشاكل أصحابها و لهذا الفعل سببين الأول ان يشعر بأن هناك مشاكل كثيرة لدى الناس هو لا يعلم عنها شيئا اما الثانى فهو تحقيق فكرة التواصل و التكافل الاجتماعى الذى يعيد الحب و التكاتف بين الناس بدلا من أن يعيشون فى جزر منعزلة عن بعضهم البعض ، و بالفعل يجد الأسرة الفقيرة التى مرضت أبنتها و قد سعوا من أجل علاجها و طرقوا أبواب كل المستشفيات ثم أرسلوا خطابا فى مسجد الشافعى ليعينهم الله على ما عجز عنه الطب ، و السيدة العاهرة النائبة ارسلت فى خطابها أنها تنتظر علامة من الله تؤكد لها أنه قبل توبتها ، و حتى الخطاب ” المفبرك ” عن الفتاة كان يحمل مشكلة حقيقية لم تستطع صاحبتها ان ترسلها ، كل هذه النماذج الإنسانية المطحونة لم تجد من يمد إليها يد المساعدة فلجات إلى الأمام الشافعى على سبيل التبرك به و بقربه من الله و ليس على سبيل انه المخلص .

  • ولكنك جعلت البطل في الفيلم رسولا من الإمام الشافعى وليس سببًا أوجده الله لحل مشاكل الناس ؟

أليس من طقوس التمني أن نكتب رسالة ونلقيها في البحر كما فعل داود عبد السيد في فيلمه رسائل البحر، أو يتحدث أحد إلى الودع ثم يدفنه فى الرمال فهل البحر هو الذي يستجيب أم الودع؟ كل هذه الأشياء مجرد أدوات يخاطب بها أصحاب المشاكل ربهم وحتى البشر أنفسهم وسائط يستخدمها الله لتحقيق إرادته على الأرض وليس من حق أي إنسان أن يخلق بين العباد وربهم وسطاء لا حول لهم ولا قوة.

إن هذا الزعم هو محض خيال اصطنعه السلفيون لمعاداة فكرة المناجاة الروحية، وهذا يحيلنا إلى فيلم رائع يحمل اسم «رسالة إلى الله»، وبالمصادفة مؤلف هذا الفيلم مسلم ومنتجه يهودي ومخرجه مسيحي وفي الفيلم فتاة صغيرة كانت تكتب رسالة إلى الله تطلب فيها مطلبًا يتفق ومنطقها الطفولي وعندما مرضت وعجز الأطباء عن شفاؤها كتب والدها رسالة إلى الله ليعينه على شفاء مرضها فهل هذا تصرف مرفوض أو ضد الإيمان والدين في شيئ؟.. وهل هناك ما يمنع أن نخاطب الله كيفما تشاء من خلال الدعاء أو المناجاة العقلية أو الرسائل الموجهة إليه سبحانه و تعالى؟ ولماذا نصادر حق أحد فى التحدث مع ربه باى وسيط من الوسائط السابقة ؟

  • هناك ما يسمى بالأدب في مخاطبة الله أليس كذلك؟

هذا يحيلنا إلى مجموعة من المقالات التى شن أصحابها حربا ضارية على الكاتب العظيم توفيق الحكيم عندما كتب ” رسالة مع الله ” و أتهموه بالكفر و التطاول على الذات الآلهية و كأنه ليس من حق أحد أن يتحاور مع الله مع ان الصلاة و الدعاء كلاهما حوار أصيل مع الخالق و هناك مشهد جميل فى مسرحية سكة السلامة يوجه فيه الفنان القدير حواره إلى الله أملا فى إنقاذ المجموعة كلها مما وقعوا فيه و يقول أثناء الحوار ” يا رب ما يغركش المنظر ” و مشهد آخر شهير لعبد السلام النابلسى و هو يقول ” كفاية ما تبسطهاش اكتر من كده ” فلو أننا حاكمنا هذه المشاهد بالمنطق السلفى الضيق سنعتبرها طعنا وتطاولا على الذات الآلهية مع انها مجرد حوارات من أناس بسطاء لم يتعلموا مخاطبة الله بلغة العلماء و مع هذا لديهم يقين بأن كلماتهم البسيطة ستصل إلى الله و سوف يعينهم على ما هم فيه حتى لو تحدثوا بلغتهم العامية غير المعقدةفعندما دخلت فكرة المطوع الدينى قلبت كل الموازين فهذا المطوع يحكم علينا ، على سبيل المثال يقول ان فلانا شخص ملتزم و هو لا يملك حق الحكم على الالتزام و الالتزام اصلا ليس مواصفات شكلية مثل اللحية و الجلباب و الصلاة فى المسجد و لكن الفكر السلفى نجح فى تقييم ايمان الآخر و التدخل فيه فأصبح رئيسا لنيابة الدين ثم حكم على من سيدخل الجنة و من سيدخل النار فتحول ألى قاضى و الناس مع الأسف خاضعين للفكر السلفى حتى اذا لم يقتنعوا به .

  • وما هو الفرق بين الخضوع و الإقتناع ؟

المقتنع ينتمى الى الفكرة و يؤمن بها و يروج لها اما الخاضع فهو يعيش وسط آلة يومية تملأ رأسه بأن الأضرحة حرام و الأولياء وسطاء يملكون شيئا من الأمر و مثل هذه الأخطاء الشائعة عندما تلح على عقول الناس تجعلهم ينساقون لها لأنهم لا يجدون بديلا عنها فهل تملأ حتى ذرات الهواء التى يتنفسونها مع ان الأصل أن الأولياء هم الذكر و الروحانية الجميلة أصيلة فى رسالتهم و رائحة الحب تنبعث من أضرحتهم فتقوى الإنسان و تدعمه جسديا و نفسيا و تشع نورا بداخله و لكن تبقى رسالته تصل الى الله بدون وسيط .

  • فى النهاية يعيد البطل بناء مقام سيدى هلال برغم انه عندما هدمه فى البداية لم يجد أسفله اى شيئ فما سبب البناء مرة أخرى ؟

هذا دليلا قاطعًا على كل ما سبق لأنه يعيد بناء الرمز، رمز الحب والتسامح والروحانية حتى إذا غاب جثمان الولي صاحب المقام فنحن نذهب إلى الفكرة وليس الرفات ونستمد طاقتنا من إيجابية الجدران التي تضم هدفًا أساسيًا هو أن تحبوا بعضكم البعض.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock