رأيك

الإعلامية حنان عبد الحليم عبد الله تكتب : ماسبيرو عشقى .. وداعاً

لا أجيد إلقاء خطب الوداع ؛ فأنا غالبا أجهل ما يقال فيها ؛ و لكنى اعتدت أن أودع أحبابى بالاحتضان .

كم كنت أتمنى أن يكون ماسبيرو إنسانا لاحتضنه مودعة ..احتضانا أخيرا يليق بقصتى معه .

ماسبيرو الامبراطور المعشوق المفعم بالحياة الذى تسطع فى أرجاءه الأضواء ليل نهار ؛ الذى تلتف حوله المحظيات و العشاق و المريدون ؛ الساحر الذى لم تخل جعبته من المفاجآت ؛ فما أن يلقى تعويذته على أحد إلا ويسلبه عقله ؛ فكم من بشر عاشوا فى ركابه و كم من انفاس قطعت ؛ وأعمار ذهبت بين أروقته باحثة عن بقعة ضوء أو سلم لأدواره العليا ؛ الباب الملكى للشهرة و الوصول لأصحاب السلطة و النفوذ ؛ رفيق الأحداث العظيمة ؛ والتى لا يكتمل بهاؤها إلا بحضوره ؛ متعدد العلاقات صاحب المزاج المتقلب الذى لا يبقى على أحد فحب التغيير من شيمه و تتابع الأجيال ضرورى لبقائه على قيد الحياة …

اليوم و بعد سته و ثلاثين عاما أودعه و أودع معه تاريخى كله و قطعا عزيزة من عمرى وداعا حتميا بفعل التقاعد ؛ ولكنى أجدنى كسيرة الفؤاد ليس لفراقه فقط و لكن لأنى أراه مغدورا من أقرب المقربين ؛ فمن قربهم و أسكنهم عليائه يغتالونه اليوم أو يباركون أغتياله بصمت حقير .

دخلت بلاطه صدفة كفرخ عصفور لم يتعلم الطيران بعد يتخبط فى الحوائط ؛ خجولة ؛ جاهلة أصول الإعلام و فنون الحياة ؛ و كان على أن أتفاعل داخل هذا الكيان المهول لأجد مكانا خلف الميكروفون ثم أمام الكاميرا ؛ وكانت مهمة صعبة لا يصلح معها أفراخ العصافير إنما تليق فقط بالصقور .

ففرخ العصفور الحالم المندهش ؛ الذى لاتزال أمه تطعمه .. شعر بالذعر و لكن المكان سحره و أغراه بالبقاء و أدرك بحدسه القوى أن تغلبه على ذعره شرط لبقائه ؛ فكان عليه أن يبدأ رحلة التغيير طبقا لقوانين المكان ؛ و اعتبر تخبط الحوائط طقسا من طقوس ميلاد كائن جديد قادر على التحليق بأجنحة الصقر ؛ منطلقا عبر أثير ماسبيرو إلى العالم الرحب .. كائن أعاد اكتشاف نفسه و مواطن قوته .

عليك أن تتحلى بشخصية القائد و انت فى العشرين من عمرك لتكون أهلا للجلوس خلف الميكروفون أو فى مواجهة الكاميرا ؛ و سلطة محببة على الجمهور ..خالية من الغرور .. و إلا لن يصدقك أحد ؛ و سيكون جزاؤك الانصراف أو السخرية .

الثقة فى قدراتك شرط صعودك و هى لا توهب بل عليك أن تبحث عنها داخل نفسك و بدونها لن تستطيع أن تقنع أحدا و لن تكون جديرا بالمهنة ؛ فتلقين قواعد اللغة و فن الإلقاء و أصول الإعلام و حرفية التعامل مع الكاميرا و الميكروفون ؛ مهمة من يدربك ؛ و لكن ثقة الآخر مهمتك أنت و عليك أن تكتسبها ؛ فصورتك النهائية كواجهة و كمنتج إعلامي قابل للتسويق لن يصنعها غيرك.

و لكى تصبح نجما عليك أن تكون ذو بصمة خاصة و ليس مجرد صورة مهزوزة من أحدهم .دروس قرأتها من فوق جدرانه كمعبد عتيق ؛ و فهمتها من تجارب سكانه و رواده ؛ و أصبحت بالنسبة لى دستور الحياة و شروط البقاء داخل ماسبيرو.

كان حلم النجومية بعيدا فى البداية فقط حلمت أن تكون هوايتى هى عملى ؛ فى ظل هذا المشهد شديد التعقيد ؛ فلم يكن الانتقال من خلف الميكروفون لمواجهة الكاميرا اختيارى ؛ و لكنه كان اختيار القدر … و لحظتها دخلت إلى معترك الواجهة و الصفوف الأولى و الذى يقضى بأن أكون على قدر النجومية الحقة ؛ أو أن أنسحب نهائيا .

فلم يعد العمل مجرد هواية أحبها و لكنه تحول لاحتراف و احترام للذات وجدارة بقاء وسط نجوم ملئ السمع و الأبصار ؛ نجوم كان أقصى طموحى يوما ما ؛ المرور بجوار أحدهم فى إحد الأروقة ؛ أو مصافحته على أقصى تقدير .

وقتها تعرفت على قطعة الزجاج التى لطالما جلست أمامها بعد ذلك ( الكاميرا) و هى سلاح فتاك من أسلحة ماسبيرو ؛ ساحرة تحب و تكره ؛ ترفع إلى عنان السماء و تلقى إلى أسفل سافلين ؛ و هى كاشفة لا تستر أحدا ؛ و كفيلة بأن تضع أصغر العيوب تحت المجهر ليبدو ضخما ؛ و لا تقتصر على عيوب الشكل فقط ؛ و لكن عيوب الروح و العقل والفكر ؛ أراها الدنيا بكل مباهجها و عطاياها ؛ و غدرها و انصرافها ؛ ومن يحترف التعامل معها عليه أن يحبها على ألا يدمنها و أن يقبل بأصول اللعبة ؛ فهو مجرد شخص يقف فى طابور طويل من الساعين للفوز ولو بنظرة واحدة منها ؛ و و عليه أن يعى أنها بطبعها ساحرة مستبدة قادرة على أن تشترى روحه أو تسلبه عقله .

و احمد الله على أنها حظيت بحبى فقط ؛ و فهمت أصول التعامل معها مبكرا و استفدت من تجارب من سبقونى فى حبها ؛ فأعطيتها بقدر ما أخذت منها ؛ و لم أتركها تغير كمياء نفسى وعقلى .ممتنة لعناية السماء التى أمنت رحلة سعيي عبر السنوات و أقالتنى من عثراتى ؛ و ساقت لى أيادى منفذة و قلوبا طيبة ؛ حمت كفاحى الشريف فى مكان اتختلط فيه النبلاء بالدهماء . ممتنة لكل درس لقنتنى إياه الحوائط و الطرقات ؛ و قصص الكبار التى عرفتنى بمجد المكان ؛ و رواد المهنة العظام ممن سرت على نهجهم .ممتنة لقدرته على تلقينى فنون الحياة ؛ و للقوة التى اكتسبتها ؛ و لاكتشافى ذاتى و قدرتى على الصمود أمام الصعاب .ممتنة لسنوات عمل غير تقليدي أيقظ المبدعة التى تقبع داخلى ؛ فالموظفة لا تليق به و لم تكن لتصل إلى شئ .

و لا يتبقى لى سوى أن اتمنى أن أحتضن ماسبيرو احتضانا ماديا أخيرا ؛ يتوج ملايين المرات التى أهديتها إياه ؛ بعيونى و قلبى فى أوقات الصفاء و الجفاء . وسأتغافل عن نظرة الانكسار فى عينيه ؛ ومظهره الذى لم يعد مرتبا ؛ ملابسه التى أصبحت قديمة الطراز … و سأهمس له بأنه مازال فاتنا و أنه معشوقى المحاط بالأحباب ؛ و سأذكره بأمجاده الخالده ؛ و أنه جزء غالى من الوطن ؛ حبه واجب كحب الوطن ؛ و أنى مازلت أرى تاجه يتلألأ فوق جبينه .

ساستحثه على النهوض كما أفعل مع أحبابى فى غرف العناية المركزة ؛ و سأدعو له بالنصر و البقاء بلا كلل ؛ وما دام فيه حجر فوق حجر ..دعاء ناسكة فى محراب عرشه ؛ غادرت بجسدها ؛ و تركت روحها لتطوف أرجائه مع ذكرياتها المزروعة داخله فى شوق و حنين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock