إبداع

” مايقع إلا الشاطر ” قصة قصيرة للكاتبة الأديبة وفاء أنور

تمت خطبة جارتنا الرقيقة ذات الوجه الصبوح والتي كانت تعمل موظفة في إحدى المصالح الحكومية ، وكان خطيبها زميلًا لها في هذه المصلحة .

كنت كلما رأيتها هى وخطيبها الذي كان من وجهة نظري غير مناسبًا لها أشعر بالحزن لأجلها ، فهى كانت إنسانة لطيفة تسكن الابتسامة وجهها وتطل سعيدةً بها . كنت حينها طالبة بالصف الأول الإعدادي ، وفي صباح يوم كنت أستعد للذهاب إلى مدرستي وشعرت منذ البداية أنني لن أتمكن من الذهاب سيرًا على الأقدام كما تعودت فقد تأخرت عن موعدي قليلًا ، فاضطررت أن أستقل أتوبيس النقل العام الذي سيختصر المسافة ولا يعرضني لتوبيخ أو لوم من أساتذتي ، وبالفعل ركبت ولم أجد مكانًا للجلوس فوقفت أتأرجح وأنا أحمل حقيبتي المدرسية فوق ظهري ، تمكنت من التشبث بأحد الأعمدة وقد كان قريبًا من السلم الخلفي .

كان الأمر صعبًا على طالبة في مثل سني قصيرة القامة تقف وسط عمالقة تخشى أن تفوتها المحطة التي ستنزل فيها خاصة مع وجود زحام شديد في هذا التوقيت فالجميع يود الذهاب إلى عمله أو مكان دراسته بأقصى سرعة . سمعت صوتًا رقيقًا يناديني باسمي ، لالتفت فأجدها جارتنا التي كانت واقفة على مقربة مني ، حاولت بدورها أن تجعلني أقف إلى جوارها لحمايتي وأنا أحمل هذا التل الثقيل على ظهري .

كانت جارتنا تقف ويقف أمامها خطيبها يتبادلان معًا أطراف الحديث ، فهما في طريقهما إلى مقر عملهما ، وما زال الطريق طويلًا أمامهما ، كانت جارتنا تقتطع جزءًا من حديتها معه بين الحين والآخر فتوجه بعضه إلى .

ربما أزعجه هذا الأمر ، فكان بين لحظة وأخرى يوجه نظراته نحوي وهى تنطق معبرة عن أمله في نزولي لعله يتمكن من جذب انتباهها إليه وحده ، أدركت حالته التي يمر بها ولكنني لم أكن لأتوقع ماسوف يفعله بي حين نادى المحصل على المحطة التالية وهى المحطة التي سوف أنزل فيها بسلام وأمان لأذهب إلى مدرستي تأهبت واقتربت من الباب استعدادًا للنزول .

وجدت نفسي مدفوعة بقوة إلى أرض الشارع بعد أن قام هذا الخطيب ذو القلب القاسي بإزاحتي من طريقه قبل أن يتوقف الأتوبيس في محطة نزولي ، لأجد نفسي جاثية على ركبتاي اللتان جرحتا بفعل تلك الدفعة القوية التي دفعها هذا العملاق لي .

وجدت نفسي أمام أحد المقاهي القريبة من مسجد السيدة عائشة ولم أستطع النهوض من على الأرض بمفردي ، فأسرع نحوي بعض رواد المقهى الذين دأبوا على الجلوس عليه لتناول المشروبات قبل توجههم إلى مقار أعمالهم ، أراد بعضهم اللحاق بسائق الأتوبيس ولكن المحاولة فشلت بعد أن انطلق في طريقه مسرعًا ، فقاموا بصب اللعنات عليه حتى اختفى تمامًا عن الأنظار.

قاموا على الفور بمساعدتي في النهوض وأحضروا لي كرسيًا لأجد نفسي واحدة من رواد المقهى دون اختيار ، وجدت نفسي وسط أناس يعاملونني بعطف وطيبة قلب ليس لها حدود ، كأنني على صلة قرابة بكل واحد منهم ، نادى أحدهم بصوت عال على الجرسون قائلًا : ” هات واحد شاي بحليب هنا للآنسة ” ، ومنهم من أسرع بإحضار كوبًا من الماء لي ، شعرت حينها بخجل شديد وانهمرت دموعي وأنا أسترجع الموقف بأكمله وازداد شعوري بالخجل من تواجدي في هذا المكان الذي كان مخصصًا للرجال فقط والذي كان وجودي فيه يعد كبيرة من الكبائر في تلك الحقبة .

سألني بعضهم : ” قولي لنا يابنتي هاتروحي مدرستك ؟ ولا هاتعملي إيه ؟ ” فنظرت إلى ملابسي لأجدها لم تعد نظيفة وقد تمزق جزء من القماش في منطقة الركبتين بفعل الاصطدام بالأرض ، فأخبرتهم بأني لن أذهب إلي المدرسة ، وبأني سوف أعود إلى منزلي .تبرع أحدهم بتوصيلي فقد كان يعمل سائقًا على سيارة أجرة ، قام الرجل العطوف باصطحابي وتوصيلي دون مقابل ، بدا لي أبًا حنونًا للغاية حين حمل لي حقيبتي ووضعها في السيارة ، ثم قام بمساعدتي على الجلوس وبدأ بالقيادة ، كان يتحدث معي في الطريق ليخفف عني ويطيب خاطري بكلماته التي كانت تبرهن على آصالته وطيبة قلبه ، وصلت إلى منزلي وأخذت حقيبتي ثم شكرته على كل مافعله معي ، فرد قائلًا : ” بتشكريني على إيه يابنتي هو أنا عملت حاجة تستحق الشكر ده أنتى زي بنتي” .

أما عن خطيب جارتنا الذي طالته لعنات الجميع وأولهم خطيبته التي استمعت لتفاصيل الموقف مني وهى تعدني بأنها سوف تأخذ لي حقي منه ، بعد أن حاول تبرئة نفسه وتحويل هذا الفعل إلى مسار آخر بوصفه خطأ غير مقصود منه ، وبأنه بريء من هذا الذنب .

ردد الكبار حينها هذا المثل الشعبي للتخفيف من حدة الشعور بالحرج التي سيطرت على قائلين لي : ” مايقع إلا الشاطر” .

غابت أخبار جارتنا وزوجها ، وانتهت أحداث القصة التي كنت جزءًا منها ، وبقى المقهى كما هو في نفس مكانه ، لكنني لا أظن أن الجالسين عليه الآن سيكونوا بنفس أخلاق وطيبة قلوب رواده السابقين ، إلا مارحم ربي .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock